من ترامب إلى بايدن: سورية تحت الضغط
خلصت الانتخابات الأمريكية الرئاسية الأخيرة إلى فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن ليصبح بذلك الرئيس السادس والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، تلك الانتخابات التي نالت ما نالته من نقاشات مستفيضة وتقلبات كبيرة وخروج عن المألوف في كثير من مناحيها. ويبدو أن الرئيس المنتخب بايدن سيدخل البيت الأبيض وأمامه الكثير من الملفات الإشكالية التي أوقع سلفه دونالد ترامب الولايات المتحدة فيها من خلال سياساته المتخبطة والعشوائية وغير المدروسة، والتي صبغت الحقبة “الترامبية” خلال السنوات الأربعة التي خلت، إذ أقحم رجل الأعمال المتمرس، القادم من خارج الطبقة السياسية بلاده في تخبطات استراتيجية داخل وخارج الولايات المتحدةمتجاوزاً كل الأعراف والمؤسسات وميكانيزمات صناعة القرار السياسي الأمريكي، من خلال استخدامه أساليب مغايرة في تعاطيه مع مختلف القضايا، مفاجئاً المؤسسات المختصة داخل الولايات المتحدة، والدول والمنظمات المعنية في الخارج لتضطر المؤسسة المعنية إلى الدفاع عن موقفه المفاجئ والبدء ببذل الجهد للتريث في تنفيذ القرار أو محاولة إقناعه بتعديله أو الرجوع عنه جاعلاً من كل المؤسسات الأمريكية التنفيذية والتشريعية والقضائية والاقتصادية في حالة توتر وعدم استقرار دائمين.
وفي حين أن ترامب رجل صفقات كان يعمل بلا أي احترام لمؤسسات الحكم، فإن خلفه “بايدن” رجل سياسة متمّرس، قضى معظم سنين حياته متنقلاً ما بين الكونجرس والبيت الأبيض، وصقل خبرته داخل مؤسسات الحكم في الولايات المتحدة، لذلك سيعمل وفق عمل المؤسسات التقليدي، ووفق ما ستمليه عليه الدولة العميقة هناك. وبالنظر إلى السياسات التي خلّفتها الحقبة “الترامبية”، فإن بايدن سيعمل على إعادة ما خربته سياسات ترامب في مختلف الملفات والقضايا الاستراتيجية، وبالتالي ستكون له أولويات كبيرة لا سيما على الصعيد الداخلي بداية وسيعمل على احتواء مشكلات تتعلق بأزمة جائحة كورونا وما خلفته من أزمات اقتصادية تحتاج إلى معالجات سريعة، ثم سيعمل على رأب الصدع الذي خلّفه ترامب في قضايا التنصل والانسحاب من منظمات واتفاقيات دولية بلغت نحو اثني عشر انسحابا من اتفاقيات ومعاهدات دولية خلال فترة حكم الأخير كسيد للبيت الأبيض.
في المعادلة الأمريكية الجديدة، لا يبدو أن الملف السوري يشكّل أولوية بالنسبة للرئيس الأمريكي الجديد، لأن هناك ملفات استراتيجية أهم وأكبر من الملف السوري الذي لا يعدو عن كونه حلقة فرعية في إحدى هذه الملفات، فـ “بايدن” يختلف مع ترامب في قضايا العلاقة مع روسيا إذ يتعامل مع هذه العلاقة بعدائية أكبر لطالما وسمت سياسته حيال موسكو خلال العقود الأخيرة وهو توجه عام للديمقراطيين، كذلك الأمر بالنسبة لتركيا التي لطالما وجه لها انتقادات كبيرة بما يتعلق بملفات حقوق الإنسان وعلاقتها مع الأكراد، وموضوع التزود التركي بمنظومات صواريخ S400من روسيا، إضافة لمواقفه المعلنة من محاولة الانقلاب والملاحقات والاعتقالات التي خلفته. كذلك سيعمل بايدن على إعادة النظر بقرارات سحب القوات الأمريكية المنتشرة في أفغانستان والعراق، وصولاً إلى العودة للتفاوض بشروط جديدة مع إيران بشأن الاتفاق النووي الذي كان الانسحاب منه من أبرز ما اتخذه ترامب من قرارات مثيرة للجدل، وجل هذه الملفات له ارتباط بشكل أو بآخر بالملف السوري.
لطالما كان بايدن مشككاً بأي شيء يمكن فعله في سورية باستثناء المساعدات الإنسانية مختلفاً مع زملائه حول تسليح المعارضة السورية، وسبق له أن صرّح في عام 2014 بأن كل شركاء واشنطن كانوا قد ساهموا في خلق بؤر إرهابية متشددة من خلال نشر السلاح لكل من يعارض الحكومة في سورية أردوغان بفتح الحدود أمام الإرهابيين، كما أنه لطالما كان سابقاً ضد التدخل العسكري في سورية وضد نشر قوات عسكرية أمريكية فيها، حيث كان يرى بأن إرسال قوات عسكرية إلى سورية مصيره الفشل. لكنه أشار مؤخراً أثناء السباق الانتخابي بأنه لا يرى مانعاً من وجود قوات بسيطة لحماية الأكراد، منتقداً قرار ترامب بسحب القوات الأمريكية من منطقة الجزيرة في سورية – تراجع عنه لاحقاً – ومعتبراً بأنه قرار شائن قد يساهم في إعادة إحياء داعش في تلك المناطق، إذ أنه من المتوقع أن يقوم بايدن بدعم “قسد” التي تخلى عنها ترامب في كثير من الأوقات، لا سيما عندما سمح الأخير لتركيا بالتوغل في الداخل السوري وطرد الأكراد من مناطق في الشريط الحدودي شمال سورية فيما سمي بعمليات “غصن الزيتون” و “نبع السلام” . عدا عن أن كبير مستشاري بايدن للسياسة الخارجية أنتوني بلينكن كان قد أشار سابقاً في لقاء مع شبكة CBS إلى أن “الاحتفاظ بوجود عسكري أمريكي في منطقة الجزيرة هو وسيلة ضغط ضد الحكومة السورية” مضيفاً بأنه “لا يجب أن يكونوا هناك من أجل النفط”، كما قال ترامب. وأوضح: “لكنه صادف وجودهم بالقرب من النفط. هذه نقطة نفوذ لأن الحكومة السورية تود أن تسيطر على هذه الموارد. لا يجب أن نتخلى عن ذلك مجاناً”. وفي واقع الأمر أن السياسة الأمريكية القادمة في هذا الشأن تريد الحفاظ على الكيانية الناشئة هناك من خلال قسد في منطقة الجزيرة بغية فرض المزيد من الضغط والابتزاز على دمشق، ولمنع التواصل البري السوري العراقي الإيراني. مع أخذ رأي القادة العسكريين الأمريكيين بعين الاعتبار، فهؤلاء يرفضون تحديد أي زمن مناسب للانسحاب أو البقاء في المناطق السورية أو حتى التصريح عن التعداد الحقيقي لحجم القوات المتواجد هناك.
وبوجه عام فإن تصريحات بايدن خلال حملاته الانتخابية حول سورية كانت نادرة حيال الملف السوري، لكن الدائرة التي أحاطت به من مساعدين ومستشارين أثناء السباق الانتخابي، والتي سترافقه في الإدارة أثناء فترة توليهترى بأن الوعود الأمريكية كانت دائماً تنادي بزيادة الضغط على الحكومة السورية، بينما بقيت هذه الوعود دون حراك حقيقي لا سيما في ظل تخلي إدارة ترامب عن نفوذ كبير لصالح روسيا وإيران في سورية لصالح الحكومة السورية، ونفوذ تركي لصالح المعارضة، ما أدى إلى غياب الأمريكيين عن العملية السياسية, لذلك يرى مساعدو بايدنبأنه ينبغي عليه إصلاح النهج السياسي للسياسة الخارجية الأمريكية والذي فشل في سورية منذ عهد باراك أوباما وحتى اليوم، وهذا يعني أنه لا بد من ممارسة ضغوطات أشد على دمشق، وبالتالي فإن أعضاء الإدارة الأمريكية الجدد ربما يحملون بايدن لاعتبار الملف السوري من الأولويات، لا سيما وأن معسكر المؤيدين للتدخل في سورية يهيمن على مؤسسة السياسة الخارجية لواشنطن،عدا عن تشكل لوبي مؤثر من المعارضة السورية يعمل بشكل ضاغط في سبيل حمل الحكومة الأمريكية على المزيد من الانخراط في الوضع السوري.
في سياق آخر، لا يبدو أنه سيطرأ أي تغيير على سياسة الولايات المتحدة حيال الملف السوري من حيث الانفتاح السياسي على دمشق، بل إن الثابت في السياسة الأمريكية حيال هذا الملف هو إبقاء الضغط بحسب ما صرح به المبعوث الأمريكي السابق إلى سورية جيمس جيفري الذي قال”بأنه لا يتوقع حدوث أي تغيير في نقاط تواجد الوحدات العسكرية الأميركية في سورية ولا في العقوبات المفروضة على الحكومة السورية، ولا في إرادة واشنطن طرد إيران من سورية”. وبالتالي وفي ظل هذه المعطيات فإنه من البادي أن مزيداً من الضغوط الأمريكية ستشهدها دمشق، لا سيما على الصعيد الاقتصادي، وعلى صعيد التمسك الأمريكي بالإجراءات القسرية أحادية الجانب والتي توّجت بقانون قيصر، الذي اتفق عليه الجمهوريون والديمقراطيون معاً.
في النهاية، إن تغيير الرئيس الأمريكي لا يعني تغييراً في الاستراتيجية الأمريكية للسياسة الخارجية، فهناك ملفات ثابتة لا تتغير فيها الاستراتيجية بتغير الرئيس، بل ربما يختلف التكتيك والنهج، وربما تتبدل الأولويات، كملف الشرق الأوسط وحماية الكيان الصهيوني، وتطبيع العلاقات العربية – الإسرائيلية، كذلك مسألة العلاقة مع إيران وبرنامجها النووي، وقضية احتواء الصين، ولجم النفوذ الروسي.
تعرف سورية هذه الحقيقة تماماً، فلدمشق تاريخ طويل مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وبالتالي لم تعوّل يوماً على تغيير ما في الإدارة الأمريكية، لأن الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط قائمة على محاولة احتواء سورية ضمن نظام إقليمي ينضوي تحت السياسات الأمريكية، ما يفقد دمشق بعدها القومي العروبي، وسياستها الإقليمية المستقلة ذات الدور الرائد في مقاومة إسرائيل في المنطقة، الأمر الذي تدركه الحكومة السورية تماماً، وهو ما تتكيّف معه منذ سبعينات القرن الماضي، من خلال التكيف مع مختلف صنوف الإجراءات القسرية أحادية الجانب، والضغوط الأمريكية المستمرة منذ ذلك الحين.
نشرت في العدد 8 – كانون أول 2020 من صحيفة الخندق